الفصل الأول

"هل قرأت القرآن؟"

كل ليلة قبل النوم كانت أمي تقف عند باب غرفة النوم وتقرأ سورة الفاتحة معنا بالعربية ثم بالانكليزية أحفظها اياها والدي ولو لم يكن متدين ، بالعكس هو لم يهتم بأي فرائض الدين إطلاقا ، ولكنه أصر على شيئين: شهادة أمي عند زواجهما وقراءة الفاتحة كل ليلة قبل النوم. فكنا نجلس على السرير ذراعينا مطوية نتلو الفاتحة بسرعة البرق ، ثم ندخل السرير قبل إطفاء الضوء. أتذكر اني شعرت في الظلام بوجود الله يراقبنا وهو صامت وخفي عنا ، وكنت أحب ان أضع رأسي تحت الوسادة وأقول بهدوء دعائي الخاص: "يا رب اجعل كل شيء بخير" ، ليس لي الوقت للتفاصيل. عرفت ان الله عليم وبصير.

لم نصلي الصلوات اليومية الا بمناسبات خاصة مثل زيارة من جدنا المصري ، فوالدي كان حريصا ليريه انه برغم زواجه بانكليزية وإقامته بأروبا فهو ما زال يحافظ على التقاليد. فانطلقت كريمة ، أختي الكبرى ، تحشرنا للصلاة ، فلما قلت لها انني لا أعرف كيف أصلي أجابتني "لا يهم اتبع حركاتي فقط" ، ففعلت ما أمِرت به وقمت بإقامتها ركعت بركوعها وسجدت بسجودها ولكن المشكلة أنني لم أرها وأنا في سجود فبقيت ساجدا مدة طويلة حتى شدتني أختي بطوق قميصي. ثم بعد الصلاة هي مثّلت لي كيف أدعو الله لكي أسأله عن حاجاتي.

 قالت "ارفع يديك مع بعض ولا تترك أي ثغرات!"
فسألتها "لماذا لا أترك ثغرات؟".
قالت "لأن الله يرسل لك إجابات من السماء ، فاذا تركت ثغرات ستقع بعض إجاباته على الأرض!"

كنت صغير السن فقبلت هذا بغير سؤال ولم يلبث حتى تعودت على طريقة الله في إجابة الدعاء. إذا سألت الله عن حاجة عرفت انها لن تأتي فورا ، وربما قد لا تأتي إطلاقا ، فلم يكن الخطأ من الله ، كان الخطأ مني أنا. لا بد انني لم افعل كل شيء بشكل صحيح ، ربما عصيت أمرا فلم أستحق الإجابة. أتذكر عندما كنت أرغب في شيئ رغبة شديدة أنني حاولت بأقصى جهدي أن أكون ولدا صالحا. فعلت ذلك عندما سألت الله أن يمنع أبي عن ضرب أمي. ولكنه لم يجب دعوتي فعرفت السبب هو أنني لم أكن ولدا صالحا.
انا عمري ٦
 حينما أتيت سن المراهقة اختفى الله الى الخلفية وخلال الصيف الحار والطويل في عام ١٩٦١ لم يكن اهتمامي إلا ان أكون مثل محبوبي المغني الانكليزي "مارك بولان" فكنت أحتذي كل شيئ عنه ، لباسه المزخرف ، شعره المجعد ، حتى مشيته المتغطرسة ، وكنت أقف أمام المرآة أغني وأقفز كأنني على خشبة المسرح أمام آلاف من المشجعين. انا واخويّ ألصقنا صور كثيرة على حيطان غرفتنا حتى أصبحت مغطاة كلها بصور ورسومات من رجال بالمكياج ولابسين ثياب ضيقة تكاد تظهر عورتهم منها فاقتنع والدي اننا سنصبح مثليون جنسيا.

"ما هؤلاء المخنثون الخبثاء على جدرانكم - كلهم مثليون جنسيا!؟"
قلنا "ليسوا مثليين جنسيا".
"بالطبع هم مثليون جنسيا ، انظر الى وجوههم!

أمعنت النظر في وجوههم في محاولة لتحديد بالضبط ما الذي كشف لوالدي بهذا الوضوح القاطع أنهم مثليون جنسيا؟

"انزعوها الآن! "

فنزعناها كما أمرنا ، لا يمكن أن تقول "لا" لوالدي.


والدي ، عزيز (أقصى اليمينخلال الحرب ضد اسرائيل عام ١٩٤٨
وُلِد والدي - عزيز رضوان - عام ١٩٢٤ في القاهرة لعائلة ثرية ذات روابط عائلية للملك كمال وأتذكر أنه قال لي أن جده كان حسن بك رضوان أول رئيس البرلمان المصري. ولكنه نادرا ما تحدث عن حياته قبل وصوله الى انكلترا ولفترة طويلة لم أعرف أنه من مصر ، في البداية ادعى ان اسمه "جون بيار" (Jean Pierre) وقدّم نفسه على انه من فرنسا وحقا كان يجيد الفرنسية كما يجيد لغات اخرى ايضا.

 كانت والدتي ، ماري ماجسون ، ابنة هوراس ماجسون ، محاسب بمكتب المجلس المحلي في لندن. وكانت عائلتها ميثوديون (Methodists)، ولكن مثل والدي لم تكن متدينةصادفت والدي في باريس في ١٩٥١ هو كان يدرس في جامعة لوزان في سويسرا ، بينما هي كانت سائقة سيارات الإسعاف في الجيش البريطاني. وبعد الزواج ذهبوا للعيش في مصر ، ولكن بسبب ثورة ١٩٥٢ وتأميم قناة السويس أجلت الحكومة البريطانية سكانها مع عائلاتهم وتم إعادة توطين والديّ في كوخ تيودور (Tudor) قديمة وسطَ قرية صغيرة في أرياف انكلتارا ، حيث ولدت في ١٢ مايو ١٩٥٩ ، الطفل الخامس من ثمانية.

انتقلنا إلى شمال لندن عندما كان عمري ٦ سنوات وقضيت معظم طفولتي هناك. وسرعان ما أدركت أن عائلتي كانت مختلفة من الاخرين ، كنت أكره أن يسألني أحد عن اسمي فاذا أجبتهم بأنه "حسن" كان دائما نفس رد الفعل: الصمت المحرج أو الاستهزاءمرة في المدرسة كان الأستاذ يكتب قائمة الانتماءات الدينية ونادى اسمي فترددت فترة طويلة وبالطبع هذا التردد زاد انتباه التلاميذ فاخيرا همست:

"الإسلام"
قال الأستاذ "ارفع صوتك يا ولد"
"الإسلام سيدي"

ضحك بعض الأطفال وأصر أحد منهم أن الإسلام غير دين حقيقي وانني اختلقته فتعرضنا أنا وإخوتي للعنصرية واشتد الامر حينما قرر والدنا ان يسحبنا من مجالس المدرسة الصباحية. أنا لا أعرف حقا لماذا سحبنا منها ، لو كان متدين لفهمت ، لعله خاف من ان يصيبنا مرض المسيحيةفبدلا من حضور المجالس لاستماع إلى حكايات و أمثال ظريفة ذات عِبَر وحِكَم  جلست في غرفة منعزلة مع ولد هندوسي كبير الذي أراني مجلته الإباحية المخبأة تحت مكتبه. والنتيجة الوحيدة من كل ذلك هي لتؤكد للجميع أننا مختلفين منهم ويجب عليهم أن يتعاملوا معنا علي هذا الاساس.

كان والدي رجل ذا تناقضات ، أحيانا كان تقدميا وليبراليا وأحيانا كان تقليديا ومحافظا ، بنسبة المرأة هو كان يعتقد أن مكانتها تحت سلطة الرجل وطالب من والدتي الطاعة المطلقة وأن طموحاتها لا تتجاوز البقاء في المنزل والطبخ والتنظيف واستعمل العنف ان امتنعت عن الامتثال بأوامره. وبعدما عانت معاناة شديدة وطويلة هي طلبت من المحكمة الطلاق ، وكانت المعركة على حضانة الأطفال طويلة ومريرة.


انا عمري ١٨ مع ديان عام ١٩٧٨
في عام ١٩٧٨ بدأت شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع بكلية "شمال لندن" التي كانت معقل الطلاب الماركسيين والتروتسكيين. انضممت إلى إحدى الجمعيات الاشتراكية وأصبحت رسّام الكاريكاتير في مجلة الكلية ورسمت رسومات كثيرة تسخر من السياسيين وقوبلت رسوماتي بثناء من الجميع حتى رسمت رسوما تسخر من أشخاص جمعيتي وسياستهم . فغضب محرر المجلة وأقالني على الفور ولكنه لم يهمني فتجربتي مع سياسة اليسار خيّبت طني بها وعلى اي حال أكثر اهتمامي كان بفتاة أعجبتني وكيفية سؤالها على موعد معي. اسمها "ديان" وكانت طالبة في السنة الأولى مثلي ، قد أصبحنا صديقين من اليوم الاول. كانت ذات شخصية مبتهجة وظريفة وكانت تحب كرة القدم ونفس الموسيقي ، وكلانا تمتعنا من مناقشة معنى الحياة.

بعد بضعة أسابيع من محاولاتي الخجولة والمتلعثمة أن أقول لها شيئا غير "مرحباهي قالت لي:
"هل تريد الذهاب إلى الحانة "ستابلتون" الليلة؟ هناك فرقة الروك رائعة ".
"نعم! في أي ساعة؟ "
"تعال نحو الثامنة."

حضرت الساعة السابعة ، في أفضل جينز لديّ ويفوح مني رائحة العطر. لم تكن الا زيارة الى الحانة ولكنها كانت بداية علاقتي الأولى وأصبحنا صاحبين لا نفترق وانتقلنا الى شقة معا. بعد السنة الأولى سئمنا من محاضرات مملة عن "أوغست كونت" ، "ماكس فيبر" و"كارل ماركس". كنا نتمنى أن دراسة علم الاجتماع ستكون تجربة تنويرية تكشف لنا بعض أسرار الحياة ولكنها كانت مجرد استنساخ مجموعة مختارة من كتب مملة. فقررنا على التنازل عن الكلية والانتقال الى الريف مع جماعة من أصحابنا.

كان العام ١٩٧٩ وكنت أستمتع بحياة اجتماعية جيدة وسعيدة ولكن تحت السطح شعرت بارتباك بماهية هويتي وزادتني ارتباكا تصرفات بعض العنصريين والمتعصبين الذين أوضحوا أن من له اسم أجنبي ودين غريب - لو انني لم أكن متدينا حينئذ - لن يعتبر انكليزيا ابدا. على سبيل المثال أحد العمال في مكان عملي كان يناديني ب"يا العربي الوسخ!" لمجرد كان اسمي حسن والشيء المضحك هو أنني لم أعتبر ابدا بأنني عربي حتى تلك اللحظة!

ثم صادفتني سلسلة من الأحداث جعلتني أستعرض الثقافة والديانة التي حاولت ان أنساها ، أولها الثورة الاسلامية في ايران. أتذكر مشاهدة المعارك في شوارع طهران على التلفزيون ، وشجاعة الشعب امام حرس الشاه المدججين بالسلاح. لقد وجدت الصور مثيرة ، مدنيون متحديين يقفون ضد جبروت الطاغي ، نضال الشعب ضد نخبة قوية ، لكنني كنت أيضا واعيا ان دينهم لعب دورا قويا - نفس الدين الذي شعرت ببعض اتصال به وإن كان اتصالا ضعيفا.

واجهني مثال آخر بقوة الديانة في تأثير الناس عندما عاد صديقي من رحلة تخييم ليعلن للجميع انه وجد يسوع وأصبح إنجيليا ورفض أن يشاركنا فيما كان يشاركنا به مثل الذهاب إلى الحانة والاستماع إلى الموسيقى - غير الموسيقى يمدح يسوع طبعا - وكانت صدمة هائلة لأنه كان يستهزئ بالايمان والديانات ولكنه الآن اصبح متحمسا ومتهللا بإيمانه ويحاول باستمرار تحويلنا لدينه.

 قال "يسوع يحبك ويريد أن يغفر لك"
قلت "لكنني لم أفعل شيئا"
"نحن جميعا مذنبون فيسوع يستطيع ان يعيدك الى ما يرضي الرب"
"لماذا؟ هل أخطأ الخلق اول مرة؟ "

تبشير صديقي المستمر أجبرني على اتخاذ موقف بشأن المسيحية والديانات عموما ، وهو أمر لم أهتم به كثيرا من قبل ، فكلما فسّر لي صديقي مبادئ المسيحية مثل "الثالوث" و"الخطيئة الاصلية" و"الكفارة" عرفت انها مبادئ لن استطيع ان أعتقد بها ابدا ، فكرة ان الله هو "ثلاثة أشخاص في واحد" او وُلِد الانسان بخطيئة آخر أو ان غفران الفرد لا يتوقف على أعماله ولكن لأن شخصا آخر كان مسمر على لوح خشبي تتعارض مع العقل والعدالة. انضم صديقي بطائفة صغيرة من المسيحيين الانجيليين على بعد بضعة أميال ، لكنه استمر في زيارتنا والدعاء بان يملأنا الروح القدس.

لم يملأني الروح القدس ولم أشهد ابدا شيئا خارق العادة ، كنت أعتقد بأن هذا العالم كان "ما تراه هو ما تحصل عليه" وما كان الغيب إلا أوهام الناس ولكن تمشيا مع هذه السلسلة من الأحداث كان شيئا خارق العادة على وشك أن يحدث لي - أو قل هكذا بدا لي الأمرذهبنا انا وديان إلى مهرجان موسيقى وسط ريف "لانكشاير" الرائع ، فخرجنا مرةً للنزهة وتسلقنا أحد جانبي الوادي للاستمتاع بالمنظر وصوت الموسيقى ينطلق نحونا من الميدان دوننا فعندما كنا واقفين هناك سمعت صوت لم أكن أتوقع أن أسمعه.

سألت ديان "هل تسمعين ذلك؟"
فأجابت "ماذا؟ لم أسمع شيئا"
فقلت لها "استمعي!... انها اذان المسلمين ينادي بالصلاة!"

انا سمعت الاذان بصوت واضح وجميل فوق صخب المهرجان ولكن ديان أصرت انها لم تسمع غير الموسيقى من المسرح فتحيرت لماذا لم تسمعه ولماذا يؤذن شخص ما بمنتصف مهرجان موسيقى الروك؟ بحثت عن تفسير عقلاني ولكني لم أجد تفسيرا مقنعا وبدأت أتسائل اذا كانت الأحداث الخارقة قد تحدث حقا واذا كان هذا الاذان ندائي الخاص إلى الإيمان بالاسلام؟

لم يمض زمن طويل على مسألة الاذان الغريبة حتى جاء الحدث الثالث في هذه السلسلة. كنت جالسا مع ديان أشاهد التلفزيون عندما أعلن المقدم بان البرنامج المقبل ستكون تغطية العرض الاخير للمغني "كات ستيفنز" الذي  أسلم وغيّر اسمه الى "يوسف إسلام" ثم استقال من صناعة الموسيقى، فدهش الجمهور بإعراضه عن الشهرة والمال من أجل دينه ، فكما يقال الديانة لضعفاء العقل والمتخلفين وليست لسادة البراعة والمهارة وكنت موافق بهذا الرأي من ناحية ولكن من ناحية اخرى فرحت بأن شخصا مبدعا ومحترما استحسن الظن بديني ولو لم أتمسك به فان الامر شجّعني علي إعادة النظر في ديني من جديد.

الحلقة الأخيرة في هذه السلسلة من الأحداث كانت زيارتي الى مصرفاجأني والدي ذات يوم بحضور بيتي بعد مدة طويلة لم أره والتمس مني مصاحبته في رحلة إلى مصر ، كانت زيارته تتعلق بميراث والده ولكن أظن انه ايضا اعتقد بأنها فرصة رائعة ليفصل بيني وبين ديانكان والدي يحتقر ديان لأنها كانت قوية الإرادة ومستقلة الرأي وليست خائفة من التعبير عن نفسها ، كنت أحب هذا الجانب من شخصيتها ولكنه يتناقض مع آراء والدي بل كان ضد النظام الطبيعي عنده ، يجب على المرأة ان تكون صامتة ممتثلة بأوامر الرجل ، خلق الله النساء هكذا وهكذا ينبغي ان يبقى الى الابد. قلت لنفسي انه لن يؤثر على علاقتنا وأنه لا يمكن ان أرفض الفرصة لزيارة مصر لأول مرة ، ولكن الحقيقة ان العلاقة بيني وبين ديان قد أصبحت مضجرة وشعرت بضيق الصدر. كنت حريصا على تغيير البيئة - على الأقل لمدة أسبوعين.

قبل القيادة إلى المطار عرّجنا على بيت اختي سليمة.
سألتني "ما الذي تنوي في مصر يا حسن؟"
"كنت أفكر في استكشاف إمكانيات لدراسة علم المصريات في الجامعة الأميركية في القاهرة".
اجابت "إن شاء الله"
"لماذا أقول إن شاء الله يا سليمة ، إما أن أدرس علم المصريات أو لم أدرسه ، فما دَخْلَ الله به؟ "
"لا شيء يحدث إلا بمشيئة الله"
"هل جريمة القتل بمشيئته؟"
قالت "انه يسمح لها أن تحدث لأنه أعطانا الإرادة الحرة"
قلت "حسنا! لن يتدخل في مشروعي بدراسة علم المصريات إذن!"
"على كيفك يا حسن"
بعدما خرجنا من بيت اختي فكرت في ما قلته لها ، كان متعجرفا وأسفت منه.

كانت الرحلة الي مصر طويلة ومتعبة فشعرت بارتياح شديد عند الهبوط بمطار القاهرة أخيرا. حالما خرجت من الطيارة وتلقيت الجو الحار الرطب أدركت أنني في عالم آخر ، ولما دخلنا شوارع القاهرة أدركت أنه ليس عالم آخر بل هو كون آخر. جنحت اليّ رائحة البخور من خلال نافذة شعرية ، وقصف أذني صوت أبواق السيارات - "الكلاكسات" - كأنها فرقة موسيقية هائلة مخبلة وحمير محملة بالخضار تنسج طرقها وسط حركة المرور بينما يصلي رجل على الرصيف لابسا "بيجامة" وإمرأة ترمي الزبالة من شرفتها و تاجر يعلن بضاعته بصرخة صفارات الانذار التي جعلتني أقفز خوفا ، كان المنظر مزيجا فوضويا من الروائح والأصوات والألوان كلها كانت صدمة مذهلة ولكن برغم غربتها شعرت بالراحة والمؤانسة ، لم أكن في حاجة إلى إخفاء أصلي أو أن أشعر بالحرج بسببها وجميع من لقيته كان يحترم كلا الجانبين من نسبي الإنكليزي والمصري.


انا (وسطمع قريبي وصديقه في مصر ١٩٨١
أقمنا بشقة عمي كمال في منيل الروضة وزارنا هناك العديد من الأقارب. لبس المصريون نفس الملابس الموجودة في الغرب وشاهدوا نفس الأفلام الهوليوودية وامتلكوا نفس الأجهزة الحديثة ولكن عندما جلست على الأثاث الذي كان في نموذج الأثاث الفرنسي القرن الثامن عشر اخترق أذنيّ مكبر للصوت متعلق من المئذنة بجوار الشقة ينادي عباد الله الى الصلاة فأدى هذا الى موجة من النداءات تتدفق عبر أسطح مباني القاهرة الى آفاق ، حتى البرامج على شاشة التلفزيون تعطلت واستُبدلت بإشارة مكتوبة عليها "صلاة المغربفنهض الجميع للصلاة وتركوني جالسا وحيدا على الطاولة ، بعد الصلاة جائت ابنة عمي إلهام تحمل صحنا من الطعام.

قالت "هل يعجبك "البيتلز"؟ العضو المفضل عندي هو "بول مكارتني" انه وسيم جدا"
"نعم ، هم يعجبونني ايضا ولكنهم افترقوا منذ بضع سنوات"

المصريون كانوا يحبون الترفيه والأزياء من أوروبا وأمريكا لو ان معلوماتهم متأخرة قليلا ما

"جورج بست!" قال حمدي وابتسم ابتسامة عريضة "مانشستر يونايتد - فريق ممتاز!"
"نعم ولكن أنا أؤيد توتنهام هوتسبر"
"توتن هوتن؟ من هو توتن هوتن؟"
"توتنهام هوتسبر - انهم فريق كرة القدم من شمال لندن"
أشارت إلهام الى صورة في الجريدة لآية الله الخميني يعانق طفلة. "آه هو رجل طيب!"
"يبدو أن الشعب يحبونه"
"انه قال ان ليس هناك فرق بين الشيعي والسني وان كلنا مسلمون ويجب أن نكون أمة متحدة "

كانت إلهام فتاة مثقفة ومستقلة لا ترتدي الحجاب تحب حريتها ولها عادات وأذواق غربية ، ولكنها في نفس الوقت مرتاحة تماما مع وجهات النظر التقليدية والمتشددة ، ورأيت نفس الظاهرة بين العديد من المصريين.

"كُلْ يا حسن!" قالت عمتي نفيسة وجلست بجانبي. "طبخنا لك الأكل إنجليزي - السمك والرقائق!"
 قال عمي "هل تصلي يا حسن؟"
"في الحقيقة لا"
"يجب أن تصلي! قال النبي صلى الله عليه وسلم: مفتاح الجنة الصلاة"
"لست متأكدا من أنني أؤمن حقا في كل ذلك ، لماذا الله في حاجة للصلاة؟ "
"الله لا حاجة له للصلاة لكننا نحن بحاجة للصلاة. لنشكره ونستعينه"
"لماذا يتعين علينا أن نقدم الشكر والإستعانة من خلال الصلاة".
"هل قرأت القرآن الكريم يا حسن؟"
"قليلا"
أخذ عمي كمال كتابا من الرف.
"ها هي نسخة من القرآن بترجمة انكليزية ، أريد منك ان تعدني بقراءتها"
لم أرغب في الوعد على شيء لم أرد القيام به ولكنني كنت ضيفا في بيته فلا أستطع ان ارفض ، قلت لنفسي سأقرأ بضع صفحات ثم أضعه في ركن ما.
فقلت "شكرا، سأقرأه ".
"إن شاء الله" قال عمي
"إن شاء الله" أجبته

خرج عمي اليوم التالي وتركني في الشقة مع عمتي نفيسة ، ففتحت القرآن وقرأت صفحات كما وعدته ، ولكنني وجدت أنني لم أستطع التوقف عن قرائته. القرآن ليس كأي كتاب فإنه لا يتبع إتفاقيات النثر العادية ، ليس له بداية ولا نهاية ليس له خيط يعينك على متابعته أو اختتام كمعظم الكتب وإنه يقفز فجأة من موضوع إلى آخر وحتى اسلوبه يتغير من السرد المطرد إلى النظم السريع ومع ذلك وجدته جذّابا.

قرأت "الف لام ميم"
كانت عمتي جالسة بهدوء تدخن سيجارة وتقرأ مجلة فيها شابات جميلات متبخترات في عرض الأزياء الحديثة
"ما معنى ألف لام ميم؟"
"لا أحد يعرف." ابتسمت عمتي "بعض فصول القرآن تبدأ بالحروف الأبجدية وقد حاول المفسرون شرحها ولكنهم لم يصلوا الى معنى على وجه اليقين"
"يعني هي لغز؟"
"نعم".
كنت أحب الألغاز

"اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ"

"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ"

"نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ"

"فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"

"وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"

"وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا"

" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"

لقد بكيت عند قراءتي هذه الكلمات و خجلت من ان تراني عمتي فحاولت إخفاء دموعي منها ، شعرت بقوة غريبة في قلبي وكنت على يقين أن الله يكلِّمني من خلال هذه الكلمات وشعرت بأن غشاوة قد رُفعت عن بصري وقد اكتشفت معنى حياتي التي كنت أبحث عنه منذ كنت طفلا صغيرا ، هي كانت تجربة روحانية عميقة وعاطفية ولم أرَ أبدا حينئذ الآيات القاسية والعنيفة التي يقتبسها الكثير اليوم ، ليست لأنها غير موجودة ولكن لأنها لم تحدثني بطريقة حرفية.

ذهبت الى الجامعة الأميركية ولكن رئيس القسم كان غائبا ذلك اليوم فلم أرجع اليها مرة اخرى ، لم أعد أرغب في دراسة علم المصريات وقضيت معظم الأسبوعين المتبقيين بقراءة القرآن وزيارة الأقارب وبالطبع مناقشاتنا هناك دارت حول موضوع الإسلام.

"لي صديق يقول أن يسوع صُلب من أجل دفع ثمن خطايانا"
"بالعكس" ، قال مجدي. "يقول القرآنمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. الإسلام دين الفطرة يعني هو منسجم مع طبيعة الانسان"
"اذن لماذا لم يسلم الجميع؟"
"لأن مؤثرات خارجية تبعدهم عن هذه الفطرة السليمة ، وقال النبي "الناس نيام إذا ماتو انتبهوافهذه هي طبيعة الدنيا يا حسن لو كان كل شيء واضح لسهل الأمر ولن يكون هناك أي اختبار"

وقدّم لي مجدي كتاب الاحاديث فوجدتها مثيرة جدا مثل الحديث التالي

"أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"

عندما جاء وقت العودة الى انكلترا لم أرد مغادرة مصر ووعدت نفسي انني سأعود قريبا - إن شاء اللهكانت تجربة مذهلة ، كأن بابا روحانيا قد فُتِح لي ووجدت وراءه أسرار إلهية فعدت الى انكلترا متحمسا ومصمما على تعلم كل شيئ عن ديني.

اندهشت ديان بتحويلي المفاجئ واعتقدت انه مجرد مرحلة عابرة  فلاطفتني رجائاً أن يعود عقلي اليّ ، ولكني لم أزد الا حماسا وأصرت على النوم في سرير منفصل وقلت لديان ان الإسلام حرّم الجماع الجنسي قبل الزواج وتوقفت عن شرب الخمر والتدخين وبدأت أصلي الصلوات الخمس وكنت دائما أتكلم عن يوم القيامة والجنة وآيات القرآن واحاديث النبي في محاولات يائسة لإقناع ديان بالإسلام. اخيرا أدركنا جميعا اننا كنا نضيع وقتنا ، ديان لن تسلم وانا لست أمرّ بمرحلة عابرة فافترقنا وخرجت من شقتنا وتركت ورائي ألبوماتي الموسيقية ورسوماتي ، لست في حاجة الى إنحرافات وثنية عن سبيل الله.

ليست هناك تعليقات: