الفصل الثالث

درب الصوفية

انضممت إلىاتحاد الطلبة الإسلاميحال التحاقي بجامعة لندن في سبتمبر 1980 و أصبحت رئيس الاتحاد في 1981 وبقيت في هذا المنصب حتى عام 1984 اثنا رئاستي للاتحاد قمت بفتح  كشك كتب و نظمت  خطب ونقاشات وعروض أفلام ،  قمت بتجهيز غرفة للصلاة  وحصلت على موافقة لاستخدام  إحدى  قاعات الجامعة  لصلاة الجمعة

في البداية قسمنا مسئولية إلقاء الخطبة بين الطلاب ، لكن لم يفلح ذلك لكون اغلب الطلاب إما لا يملكون الوقت الكافي لإعداد الخطبة أو لشعورهم أنهم غير مؤهلين لذلك . في النهاية قررنا دعوة خطيب من خارج الجامعة , ووافق الدكتوركليم صديقي " مدير "المعهد الإسلامي" على إلقاء الخطبة .
الدكتور " كليم " كان مهووس بالثورة الإيرانية وكان حريصا لترويج ايدولوجية ثورية مشابهة بين المسلمين البريطانيين ، وقام بإنشاء "البرلمان الإسلامي لبريطانيا العظمىبهدف إنشاء ولاية إسلامية غير إقليمية في بريطانيا .

في البداية تلقى خطب الدكتور صديقي  حضور جيد . كانت الخطب سياسية تدور حول تاريخ أوروبا  وكيف أن الاستعمار الأوربي لدول الإسلامية هو السبب في التخلف والفقر والانحطاط الأخلاقي الذي تعاني منه الدول الإسلامية الآن .  
كان يوجه هجمات كثيرة الى أمريكا - "الشيطان الأكبر" - وادعى أنها تمارس نوع جديد من الاستعمار الأكثر خطورة - استعمار ثقافي واقتصادي بواسطته يتم التحكم في بلدان المسلمين لإبقائهم مستعبدين وجاهلين عن قيمهم الإسلامية.

كان الحديث عن الله والروحانية غائب بشكل واضح وشعر الكثير منا بالملل من سماع نفس الشئ جمعة بعد جمعة ، وبعد فترة بدأت نسبة الحضور في الانخفاض . لذلك أنهيت صلاة الجمعة في الجامعة وقمت بنصح الطلاب لذهاب إلى مسجد قريب في الحي  . 

كان هناك مسجدين يمكن المشي إليهما والعودة لحضور محاضرات بعد الظهر رغم انه لن يتبقى هناك وقت للغداء

كان "مسجد النور" غرفة صغيرة في بدروم منزل ، وأغلب الحضور للمسجد كانوا من الجالية البنغلادشية الكثير منهم يعملون في سكة الحديد أو حراسة المرور ، وكانوا يهرولون إلى المسجد مباشرة من العمل ببدلات عملهم الرسمية ، وأصبح المسجد مكتظا لدرجة أنه اضطر بعض المصلين للصلاة على الرصيف خارج المسجد. الإشارة الوحيدة التي تدل على أن هذه الغرفة هي مسجد هو السجاجيد على الأرض وخزانة الكتب المائلة والمليئة بمصاحف قديمة وبالية

المسجد الثاني كان في المكاتب الفاخرة ل"رابطة العالم الإسلاميممول بواسطة السعودية للدعوة للإسلام وكان ملئ بمدراء برواتب عالية و كانوا يستقبلون طلبات منح . كانت غرفة الصلاة أنيقة ومزينة بسجاجيد فاخرة وكتب مكلفة

في البداية كنت أصلي في "مسجد النور" ، لأني وجدت الجو العام أكثر أصالة  ، لكن الشيخ الصوفي المشهور "الشيخ ناظمبدأ يلقي خطب الجمعة في "رابطة العالم الإسلامي."

لقد قرأت البعض من الأشعار الصوفية العظيمة وكتبهم وانجذبت لمنهجهم العالمي والروحاني , لذا كنت متعطش للاستماع لشيخ ناظم الذي كان أتباعه يمدحونه كثيرا وقالوا لي انه يمتلك معارف واسعة بأمور كثيرة من بينها ظهور المهدي المنتظر .

يبدو غريبا الآن أن السعوديين الذين لم يوافقوا التصوف سمحوا له أن يلقي الخطبة في الرابطة ، ولكن المدير في ذلك الوقت كان رجل واسع الأفق واعتنق كثير من وجهات النظر المختلفة ، وينبغي أن نتذكر أيضا أن في أوائل الثمانيات لم تكن هناك الانقسامات الايديولوجية بين الجالية المسلمة البريطانية التي سوف تشغلهم في السنوات القادمة

وصل الشيخ ناظم ليلقي خطبته مرتدي عمامة خضراء كبيرة وعباءة خضراء فضفاضة طويلة وكان محاطا بالأتباع اللابسين لنفس الملابس .
على الفور لفت انتباهي جاذبيته و كريزماه . كان يملك أسلوب رزين وبطئ في الكلام حيث كان يتوقف عند الكلمات التي يريد أن يؤكدها ، وعندما كان يبتسمغالبا ما كان يفعلكان يبدوا مثل جدك المفضل.

استمتعت كثيرا بالاستماع  لحديثه , وأردت الحديث معه على انفراد حول تنبؤاته بقدوم المهدي ، لكن لم يكن هناك وقت ، لقد كان عليّ الإسراع إلى الجامعة ، ولكن دعاني احد أتباعه إلى حضور إحدى حلقاته في مسجده بجنوب لندن فاغتنمت الفرصة

المسجد كان شقة فوق بقالة تم تحويلها لمسجد ، صعدت الدرج ودخلت غرفة مظلمة ورأيت جماعة من الناس يجلسون علي الأرض ، أكثر من  نصف الحضور كانوا من الأوروبيين البيض تركيبة من غريبي الأطوار و النرجسيين ، فجلست بجوار شاب الذي يرتدي بدلة أنيقة والنظارات الداكنة وكان بتمشيط الشعر بدقة.

"السلام عليكم اسمي حسن "
" اسمي سليمان , لكن بإمكانك مناداتي سليم
" هل أنت منتظم في حلقة الشيخ ناظم ؟"
لسبب غير واضح  رد عليّ بالغة العربية - على الرغم من انه لا يستطيع التحدث بشكل صحيح.
" الحمد لله  كنت ازور الشيخ ناظم الحلقة لمدة عتيقة
"آه"
ثم استأنف الكلام بالعربية .
"من أين أنت ؟
"انا من  "فينتشلي" في شمال لندن

دخل الشيخ ناظم متبوعا بطلابه ذوي العمائم  والعباءات الخضر .
أثناء جلوسه انطلقت سيدة ألمانية سمينة لتقبيل أقدامه  . 
العديد من الحضور إما سجدوا له أو قبلوا قدميه ، سليمان حثني لتحية الشيخ .
مددت يدي لأصافحه وقلت له  في لكنة رسمية  .
" السلام عليكم "
صافحني مبتسما " وعليكم  السلام
عندما جلسنا جميعا بدأ الشيخ ترديد " الله ، الله حق" فورا بدأ الجميع بالتمايل على إيقاع  الكلمات .
بعد فترة بدا أنها طويلة , بدأ الشيخ بتغيير سرعة الكلمات بترديد  " الله , الله حيّ
زادت الطاقة إلى حد بدا أن الغرفة تهتز مع الإيقاع " الله حيّ ،  يا قيوم  ! "  
اغلبهم كانوا مغمضين عيونهم  وبدا أنهم في حالة حادة من التركيز أثناء تمايلهم على الإيقاع .
لم استطع مقاومة عاصفة الإيقاع ووجدت نفسي أتمايل اثنا ترديدي " الله حي ، يا قيوم !" مرارا وتكرارا .
أصبحت الغرفة باهتة كل الأشياء من حولي بدأت في الاختفاء
كنت تقريبا مخدرا وضعت في تلك اللحظة ، أتمايل ذهابا وإيابا لاشعوريا .
لسوء الحظ لم ألاحظ  النهاية المفاجئة والتي سببت لي إحراج كبير حيث واصلت التمايل والترديد بعد أن توقف الجميع .

قام الشيخ بقراءة بعض الأدعية ، ثم بدأ خطبته .

كان يتكلم  بلهجة ثقيلة وكان يخطئ في الكثير من الكلمات الانجليزية   
" الله يحب كل عبيده . الله يحب كل شئ ! كل إنسان ، كل مخلوق ، كل شجرة ، كل صخرة  ، الله لا يكره . إذا كان الله يكره شئ ما فإن ذلك الشئ لن يوجد . " 
كان يختار شخص من الحضور لينظر إليه وكأنه يتحدث إليه شخصيا .
" حب الله ليس حب حيواني مثل الحب الذي نراه في الدنيا .انه  حب لا يتغير . انه حب لا يموتهدفنا هو الوصول إلى الحب الأعلى  ونغمر أنفسنا في محيطات الحب

لم أكن اعلم ماذا يعني ب"محيطات الحبلكن بدا ذلك لي رائعا .

" لن يصل العبد إلى محيطات الحب إلا من خلال العبادة . نحن نعيش في عصر الكراهية والبؤس . اغلب الناس لا يعرفون  إلا الحب الجسدي   ويصبحون بائسون وتعساء . لن نصل إلى قناعة إلا  بالوصول إلى محيطات الحب ." 

لقد أثار إعجابي برسالته وطريقته , لكن لم اشعر بالارتياح  من الوقار المبالغ فيه من قبل أتباعه له , وقررت أن اسأله عن ذلك خلال فترته الأسئلة

سألته  قائلا :  " هل هو من الإسلام في شئ أن يسجد الناس تحت قدميك ؟  لم يسجد الناس تحت أقدام الرسول أليس كذلك ؟ "

رد عليّ " أنا لا اطلب منهم القيام بذلك . لكن إذا كانوا يريدون فعل ذلك من باب الحب والاحترام فلا يوجد لدي مانع . تذكر أن والدا يوسف سجدا له ."

أردت أن اسأله  أسئلة  أكثر خصوصا عن تنبؤاته بظهور المهدي . لكن كان الآخرون متحمسون لتحدث .

كان هناك زوجين طلبوا منه  "  نحن نريدك أن تبارك زواجنا
بعد أن سأل عن اسميهما و قليلا عن خلفيتهما أعطاهما الموافقة ووضع يديه على جبهتيهما أثناء قراءته لبعض الأدعية  .

ثم جاء شخص أخر مسرع يسأل " لقد  حلمت أني في قمة جبل ومن فوقي ضوء وكانت السماء تمطر ورودا"
" هذا حلم جيد يا بني , أنت أعطيت نعمة التنبؤ "

" أختي مريضة يا شيخ ادع لها بالشفاء "
قام الشيخ برفع يديه إلى السماء و دعاء وردد الجميع من بعده.

في النهاية قام متوجها إلى الدرج ، ولا زال محاطا بالمتلمسين.

كانت هذه فرصتي الأخيرة قبل أن يختفي .   
حشرت نفسي من بين الحشد .
" شيخ ناظم , هل من الممكن أن أسألك عن المهدي . لقد قلت انه آت ؟؟ 
بدا بطلوع الدرج محاطا بحراسة .
" انه هنا ! "
" في هذه الغرفة؟ "
بدأت بطلوع الدرج من بعده
"لا , انه في الحجاز
"هل يعرف أي شخص من هو
"هو لم يظهر نفسه لأي شخص بعد
"إذن كيف عرفت
"شيخي قال لي
"هل هو ذلك الشيخ الذي قد مات
يعتقد الشيخ انه يتواص مع شيخ مات في الأربعينات  
"يعتمد على ماذا تعني ب"مات"
"بمعنى انه ليس حي!!"

حراس الشيخ ناظم سمعوا مني بما فيه الكفاية وسدوا طريقي بعنف ودفعوني إلى أسفل الدرج ، واختفى الشيخ من الأنظار .

شعرت بالقليل من خيبه الأمل  من حضور حلقة الشيخليس من الشيخ ناظم نفسه , بل من التملق من قبل أتباعه تجاهه ، وكذلك كنت متشكك من إمكانية حصول الشيخ ناظم  على معرفه من شيخ ميت .

بعد أن خرج الشيخ , توجهت إلى  المخرج  حيث اقترب مني رجل انجليزي طويل وملتحي .
" هل أنت على الطريق "   
" هل تعني هل أنا صوفي ؟ لا أنا لست  صوفي  لكني أحب الصوفية وأريد التعلم عنها أكثر ولهذا السبب جئت إلى  هنا
" من اجل أن تتعلم الكثير  يجب عليك أن تتبع الطريق
" المشكلة أني أجد بعض ألاشيا منفرة مثل تقبيل الأقدام وإدعاء حيازة معرفة من شيخ ميت
" من اجل أن تتبعنا يجب أن لا تحكم علينا من خلال المظهر ، هكذا طالب العلم يتبع معلمه ، مثل سيدنا الخضر عندما طلب من موسى عدم سؤاله عن أي شي إذا أراد التعلم . " 
" موسى شئ أخر ، لكن هناك خطر إذا كان الأعمى يقود أعمى ..أليس كذلك؟
" لهذا يجب عليك إتباع الشيخ الصحيحلتثق فيه بشكل كامل
" أنا أرى انه من الصعب الثقة الكاملة في أي  شخص في مثل هذه الأمور "
" هذا هو منبع مشاكلك  ، يا أخي"  
" ماذا يجعلك تثق في الشيخ ناظم ثقة كاملة؟
" في كل عصر هناك خليفة لله . في عصرنا هو الشيخ ناظم ، انه القديس المثالي
"ما هو دليلك؟؟
"من يتبع الشيخ ناظم يعرف الدلائل ، الشيخ يعرف أشياء لا يمكن لشخص عادي معرفتها . لقد اثبت ذلك في أكثر من مناسبة . على سبيل المثال  شهدت بنفسي تنبؤه  الوقت المحدد لموت  شخص من اتباعه ومات بالضبط  كما قال الشيخ
" أنا لا أكذب كلامك ، لكن هناك الكثير من التفسيرات المنطقية لحدوث مثل ذلك
" هناك إثبات آخر لك يا أخي العزيز ، الشيخ يستطيع أن يكون مع أفراد مختلفين من اتباعه في أماكن مختلفة في نفس الوقت "
" عفوا , لكن يصعب على تصديق ذلك
" ما يمنعك من تصديق ذلك هو التكبر في نفسك ، يجب عليك التوقف عن المقاومة وفتح قلبك
حوارنا ذكرني بالكتاب (اليس في ارض العجائب Alice in Wonderland) 

كان الشيخ ناظم موضوع لمزاعم غريبة كثيرة , وربطه بمخططات بعيدة المنال ، أظن  أغربها " مشروع معبد القمرمغامرة هدفها بناء مسجد على سطح القمر" كإشارة للناس العقلاء الحقيقيون
مؤسس المشروع  روسي مسلم اسمه أسد الله   الذي قال " هناك تنبؤ إلهي من حقيقة أن رمز الإسلام هو الهلال القمري وان المآذن تمثل سفن فضائية" ، أسد الله  نودي لبناء "معبد القمر" أثناء دعائه لإخوة الخاضع لعملية جراحية

الصوفية تحترم في الغرب لكونها تميل إلى الاعتدال الديني  والحرية  . 
في احد المرات دعوت احد شيوخ الصوفية لإلقاء خطبه في " اتحاد الطلبة الإسلاميوشرح كيف أن الصوفية هي قمة الأديان وكيف أن المسيحي أو اليهودي أو الهندوسي بإمكانه أن يكون صوفي  مثل المسلمون الصوفيون
لكني لم أكن مقتنع لحلقة  لشيخ ناظم ولا لحلقات صوفيه أخرى زرتها .

تجربتي جعلت مني متشكك من ادعاءات شيوخ  يبدوا عليهم في أفضل الأحوال " غريبي الأطوار لكن غير مؤذينوفي أسوئ  الأحوال " خطيرون مصابون بوهم ذاتي "  
طبعا أنا لم ألم الصوفية ككل بسبب تجاربي مع بعض شيوخها وأتباعهم  . لكن ذلك منعني من الانضمام إلى الصوفية .
على الرغم من ذلك فقد انجذبت للجانب الروحاني للصوفية , مع ذلك  لم اعتبر نفسي صوفي .

طورت تعلم نحوا تفسير اقل حرفية للقران . إيمان بان هناك معاني عميقة ومهمة وراء الكلمات لا يمكن فهمها على الفوروقد استمتعت أيضا بالأشعار والحكم الصوفية  .  

من بين هذه الحكم  قصص جحا التي تحكى في جميع أنحاء العالم الإسلامي  وتعتبر جزء من الموروث الشفوي تعود لقرون مضت . هي قصص فكاهيه وفي نفس الوقت  تحمل  معاني حكيمة . واحدة من المفضلات لدي والتي تطعن في الصوفية نفسها

جحا كان يمشي في السوق مصحوب بعدد كبير من الأتباع . كلما فعل جحا شئ قلده أتباعه . كلما مشى جحا عدة أقدام كان يشبك يديه في السماء ، يلمس قدمه ، ويقفز ويصرخ " هو ها هو ها"   وكان اتباعية يقلدوه بأضبط  . 

سأل احد التجار جحا: "ماذا تفعل يا صديقي؟ لماذا هؤلاء يقلدون كل ما تفعل؟"  

قال جحا: "أنا أصبحت شيخ صوفيهؤلاء هم أتباعي أسعى بهم نحو التنوير"  

"كيف تعرف من وصل إلى التنوير

"هذا هو الجزء الأسهل!  …أقوم بعدّهم كل صباح ، الأشخاص الذين هربوا قد وصلوا إلى التنوير!