الفصل الثاني


سبيل الله
بعد عودتي من مصر كنت مصمما علي الانغماس في دراسة الإسلام
تزامنت صحوة إيماني مع صحوة شائعة بين المسلمين في إنجلتارا في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. من دوافع تلك الصحوة عدة عوامل مثيرة في العالم الإسلامي حينذاك مثل الثورة الاسلامية في إيران والغزو السوفييتي لأفغانستان والغزو الإسرائيلي للبنان ومذبحة صبرا وشاتيلا وتمويل الدعوة الاسلامية من قبل السعوديةكانت الجالية المسلمة في إنجلتارا تنبض بالنشاط والإنفعال خاصة في لندن . ازدحم المساجد بالذين منذ سنوات قليلة لم يكونوا ملتزمين بدينهم وظهرت اجتماعات إسلامية وحلقات الذكر في مراكز محلية وبيوت الناسكلما ذهبت الى مسجد "ريجنتس بارك" في وسط لندن لصلاة الجمعة أتاني الكثير يدعونني الى تجمعات لمناقشة الإسلام واكتظّ إطار العرض في المسجد بإشارات تعلن باجتماعات ومنظمات إسلامية جديدة. عندما شاركت في هذه الاجتماعات أدهشني أول مرة تنوع الحاضرين فيها ، هناك الآسيويين والأوروبيين والأفارقة والأتراك والأكراد والماليزيين والعرب والايرانيين وكانوا من جميع مناحى الحياة كطلاب ، موظفي الخدمة المدنية ، سائقي الحافلات ، أطباء ، وحراس وقوف السيارات ، فلم يكن هناك حاجز وطني أو عرقي أو طبقي عن المشاركة الكاملة في الاجتماعات. كان الهدف لهذه الاجتماعات معرفة المزيد عن الإسلام ولكن من المهم ايضا التعرف على المسلمين في المنطقة وبناء شعور الأخوة.

أول الاجتماع حضرته كانت "جمعية المخلصين الإسلامية" التي عقدت في غرفة الجلوس للأخ شريف. معظم الذين حضروا قد وُلدوا مسلمين ولكن لم يكونوا متدينين من قبل فهذا خلق جوا من الاكتشاف والمغامرة فبدأنا بمبادئ الإسلام. ليست موجودة في تلك الأيام الاختلافات العقائدية والانقسامات الطائفية التي تسبب صراعات كثيرة بين المسلمين اليوم ، كانت الاجتماعات شاملة وواسعة الأفق وكنت أحب هذه الاجتماعات أيضا بسبب الغذاء الرائع الذي قُدّم لنا في نهايتها مثل بریانی والكاري وسمبوسة والمحشي والكسكس وكفتة ، كنت أحب الشعور بالانتماء والهوية كأنني جزءا من عائلة الضخمة التي تشترك في رباط خاص.

الامر الذي اتضح من هذه الاجتماعات ومن مناقشات مع مسلمين هو أن علم اللغة العربية كان شرط أساسي لفهم الإسلام ، وشعرت أيضا أنه يجب عليّ ان أتعلم اللغة العربية لأنه كان من تراثي وهويتي فالتحقت بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن لدراسة اللغة العربية والثقافة الإسلامية. معلمي الخاص كان ديفيد كوان (David Cowan) مؤلف الكتاب "Modern Literary Arabic" ، رجل كبير السن ولكن خفيف الدم اعتنق الإسلام في شبابه وكان رئيس القسم الشرق الأوسط الذي يتضمن الدكتور وانسبورا (Wansbrough) والدكتور كوك (Cook) الذان أثارا جدالا بسبب كتبهما التي ألقت ظلالا من الشك على القرآن فادّعى وانسبورا أن القرآن كان من نتاج مصادر مختلفة وتحسن وانصقل من خلال السرد عن طريق الفم بعد محمد ، بينما ادّعى الدكتور كوك مع باتريشيا كرون (Patricia Crone) أن الإسلام بدأ كفرع منحرف من ديانة اليهود ثم أصبح دينا منفصلا بعد ذلك. لم تتولد كتبهم ضجة كبيرة ولو كانت نشرت اليوم لأشعلت مظاهرات عنيفة من بعض المسلمين ولكن لم تكن الجالية المسلمة مسيسة حينذاك ولم تكن الجماعات الجذرية منتشرة في المملكة المتحدةكنت حريصا على امتصاص كل ما بوسعي حول الإسلام ووجدت الجو في الجامعة مثيرا ومهيجا جدا وحضرت كل محاضرات اللاصفية والنقاشات المسائية وقرأت أي كتاب ذكر الإسلام وأصبحت مكتبة الجامعة بيتي الثاني وسهرت على الدراسة حتى أمناء المكتبة طردوني منها.

في نفس الوقت الذي كنت أبذل جهدي لمعرفة المزيد عن الإسلام كنت أيضا حريصا على دعوة الناس إلى الإسلام وخاصة أقاربي الذين لم يكونوا ملتزمين به وحثّتني على ذلك رغبتي المتحمسة في تبشير ونشر كلمة الحق الذي اكتشفتها ولإنقاذهم من عذاب الجهنم. كنت قد رأيت مؤخرا فيلم "الرسالة" عن حياة النبي وهو يبدأ بثلاثة فرسان ملثمين راكضين عبر الصحراء حتى وصلوا إلى حكام بيزنطة وفارس ومصر لتسليم رسائل تدعوهم للإسلام ، هذه هي الرسالة إلى هرقل ملك بيزنطة:

"باسم الله ، الرحمن الرحيم - من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعوة الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثم جميع الآريسيِّين"

فقلت لنفسي "حسنا! اذا كانت هذه هي طريقة النبي إذن انا سأدعو الناس بنفس الطريقة" فكتبت رسالة الى اختي لطيفة التي لم تتمسك بالإسلام:

"عزيزتي لطيفة - سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعوة الإسلام أسلمي تسلمي يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فعليك إثمك - المخلص - أخوك حسن."

لا أعرف ما كان رد فعل لطيفة على تلك الرسالة لأنها لم تجب عليها فقررت علي تغيير الطريقة وأن أتحدث مع كل واحد وجها لوجه وقضيت الكثير من الوقت مع أشقائي وأصدقائي أقرأ آيات القرآن وأبين لهم معانيها.

انا في جامع ريجنتس بارك
زرت الأخ شريف ذات يوم فاقترح لي أن أرافقه على "تبلیغی جماعت" (جماعة التبليغ). كانت "تبلیغی جماعت" حركة إسلامية التي أسسها الشيخ محمد الكاندهلوي في الهند عام ١٩٢٦ هدفها تبليغ الدعوة الاسلامية الى من لم تبلغه وايضا دعوة العاصين من المسلمين إلى الصلاة وجميع فرائض الإسلام فانتشرت الجماعة سريعا في الهند ثم في باكستان وبنغلاديش وانتقلت إلى العالم الإسلامي والعالم العربي وبعد ذلك انتشرت دعوتها في أوروبا وأمريكا ومعظم بلدان العالم وقد أصبحت ذات شعبية كبيرة بين المسلمين في المملكة المتحدة.

"ما هو"تبلیغی جماعت"؟"
"هو تجمع تُلقَي فيه محادثات عن الإسلام - تعال معي؟ "
"أين هو؟"
"ديوسبري" (Dewsbury)
"أين ديوسبري؟"
"قريب من ليدز" (Leeds)
"ليدز؟! هذا على بعد أميال كثيرة! "
"لا تخف لن يستغرق وقتا طويلا ، هيا بنا! ستستفيد منه جدا وستتعلم كثيرا حقا"

سرعان ما وجدت نفسي في سيارة متوجها الى ديوسبري وبعد سفر استغرق خمس ساعات الذي توقفنا من خلاله مرتين لنُركِب معنا بعض الإخوة وصلنا في قرية ديوسبري مع منازلها المدرجات الفيكتورية. كان مشهدا نموذجيا إنجليزيا وهو آخر مكان الذي أتوقع أن تكون فيه جالية مسلمة ولكن عندما تحولت السيارة الى الشارع القادم واجهنا مسجد ضخم وعلى طول الشارع لعبوا أطفال باكستانيين لابسين لبس تقليدي بينما وقفت نساء باكستانيات عند أبوابهن محجبات ويثرثرن باللغة الأردية ، ولو لم توجد المنازل الفيكتورية والسماء الباهت الرمادي فوقنا لحسبته حيا من أحياء كراتشي.

لم يكن بناء المسجد مكتملا حينئذ وكانت اكياس من الاسمنت مرمية هنا وهناك وأعمدة مع شبكة سلكية تخرج منها. كان المسجد حافلا بناس وتُلقَى معظم المحاضرات باللغة الأردية فهداني أخ الى محاضرة باللغة الإنجليزية. كان يتلقب شيوخ "تبلیغی جماعت" بلقب "مولانا" وكان مولانا رجلا قصير القامة كبير البطن يجلس على منصة مرتفعة ويتحدث باللغة الانجليزية بأسلوب ركيك أمام مجموعة مختلطة من العرب والماليزيين والأفارقة وعلى قرب مني جلس رجل افريقي سمين لابس قفطانا مزخرفا وطاقية ملونة ، أطل في وجهي من خلال نظارته ذات عدستان سميكتان التي كبّرت عينيه ضعف حجمها وهو حدّق في وجهي طول المحاضرة فانا رميت اليه نظرة لأظهر إزعاجي به ولكنه ابتسم ابتسامة عريضة تكشف أسنانه البيضاء واشتدّ في التحديق بلا هوادة.

أخيرا قال لي "هل أنت مسلم؟"
أجبته في نبرة خافتة حتى لا أعكّر المحاضرة "نعم"
"ما شاء الله! منذ متى وانت مسلم؟ "
ترددت فلم أكن متأكدا كيف أرد له لأنني ولدت مسلما لو أنني لم أكن متدينا فقلت "لقد كنت متمسك بالإسلام لمدة عام تقريبا".
"هل تعرف كيف تصلي؟"
"نعم".
من الواضح انه اعتقد بانني انجليزي غير مسلم الذي أسلم. سرعان ما اكتشفت أن الاوروبيين والغربيين الذين أسلموا قد جذب اهتماما هائلا من المسلمين. من جانب هو لحماية المسلمين الجدد ولمساعدتهم ولكن كان ايضا بسبب الشعور بالدونية بالمقارنة مع الغرب نتيجةً عن عصر الاستعمار الأوروبي وتفوق الغرب في العلوم والتكنولوجيا فإذا أسلم غربي أبيض كان حدثا هاما جدا وطمأن المسلمين أن الإسلام لا بد أن يكون الحق اذا أعطاه غربي أبيض ختم الموافقةقد لقيت هذه العقلية عند الكثير ووجدت نفسي مضطرا للجلوس والاستماع الى محادثات حول أمور بسيطة وبدائية في الإسلام التي عرفتها من طفولتي ومن أشخاص الذي كانوا أقل علما بالإسلام مني!

قلت له "والدي من مصر والدتي انجليزية" وهي جملة استخدمتها مرات كثيرة عبر السنوات المقبلة

"هل والدتك مسلمة؟"
"إيه... يعني... لا حقا."
"يجب عليك أن تقنعها بالإسلام"
"نعم... إن شاء الله..."
"فمن واجبك حفظ عائلتك من النار!"
"طيب.. شكرا... لا مؤاخذة يا اخي الكريم ولكن أريد أن استمع إلى المحاضرة "

كان "مولانا" يتحدث عن الموت ويوم القيامة وقال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 'يتبع الميت ثلاثة : أهله وماله وعمله ، فيرجع اثنان ويبقى واحد"
وتوقف هنيهة ونظر إلينا ثم استأنف:
"يرجع أهله وماله"
توقف مرة اخرى وكبرت عيناه وقال:
"ويبقى عمله!"
"نعم أيها الاخوة الكرام إن أعمالنا في غاية الأهمية فهي تبقى معنا ونحن في القبر وتصاحبنا الى موعد الحساب وستكون اعمالنا إما لنا وإما علينا وفي ذلك الحين سوف ندرك حقا أهمية الأعمال حتى أصغرها ولكن سيكون بعد فوات الأوان للعودة والإصلاح - لا فرصة ثانية! "
ثم تحدث مولانا عن فضائل التبليغ والدعوة الإسلامية.
"ما هو أكثر أهمية من الخروج في سبيل الله؟ هل نحن حقا نحب الله ورسوله أكثر من أنفسنا؟ أم نحب الراحة والملذات العابرة الدنيوية؟ هل نحن أضعف من أن نعطي ربنا حتى أياما معدودة في سبيله! ما عليك إلا أن تجعل "نيت" (النية) لبضعة أيام او أسابيع أو شهر أو سنة! "

قلت للطالب الماليزي بجانبي "ماذا يقصد ب"جعل نيت"؟"
"هو يقصد أنه يجب عليك القرار بالخروج مع جماعة لدعوة الناس إلى الإسلام وأن تقيم في مسجد لمدة أسبوع او شهر او اكثر!"
قلت مضطربا "ماذا؟"
رأيت الناس من حولي يقومون واحد بعد الآخر معظمهم يحملون حقائب الظهر وبعضهم يمسكون جوازات السفر وتذاكر الطائرة!
"لا أستطيع الذهاب إلى أي مكان! لا بد لي من العودة الى بيتي "
ولكن كان الطالب الماليزي قد انضم الى مجموعة متوجهة الى "نيوكاسل" (Newcastle)

كتمت دافعا للاندفاعة نحو المخرخ وبدلا حاولت أن أصنع عذرا ولكن بعد كل الحديث عن يوم القيامة وأهمية العمل في سبيل الله كل عذر كان كأنني أقول: "لا أمانع لي بدخول جهنم!" قمت ونظرت من حولي ورأيت شريف يخرج مع جماعة فناديت باسمه ولكنه فقط ابتسم ولوح قائلا
"سوف أراك بعد أسبوعين حسن!"
لاحظ "مولانا" حيرتي فقال لي:
"هل جعلت "نيت"؟"
"عائلتي لا يعرفون أين أنا"
"يمكنك الاتصال بهم"
"يجب عليّ أن أرجع الى بيتي - عندي حاجات لا بد أن أقضيها! "
"أليس سبيل الله أكثر أهمية؟"
"اه... اعتقد بذلك... ولكن كيف آكل؟"
"سيتم توفير الغذاء!"
"أين أنام؟"
"النوم في المسجد!"
"ماذا عن والديّ؟"
"لا تخف عليهما!"
"ماذا عن..." لم يعد لي أي عذر.
"اجعل "نيت" فقط وتوكل على الله وهو سيفتح لك السبيل!"

كانت نيّتي أن أعود الى لندن وبيتي ولكن كانت نية الله غير ذلك ووجدت نفسي مع جماعة من الاخوة يخرجون من المسجد صفّا ثم ركبنا حافلة صغيرة متجهة الى ليدز.

لم أزر ليدز من قبل فقلت لنفسي أنني على الأقل سأشهد مدينة لم أشهدها من قبل ولكن لم أعلم حينذاك أنني لن أرى من مدينة ليدز إلا داخلية مسجدها فلمدة أسبوعين طبخنا أكلنا غسلنا ونمنا في المسجد. أعطوني حقيبة النوم و"شلوار قميز" (الزي التقليدي الباكستاني) وطاقية. عند وقت الغذاء بُسِطت على آلأرض لفات طويلة من ورقة وضعت عليها أطباق من كاري وشاباتي طبخوها أعضاء مجموعتنا في تناوب غير أنهم لم يسمحو لي إلا بغسل الأدوات.

قد قيل لنا أن مناقشة السياسة أو الاختلافات المذهبية ممنوعة وحتى مناقشة معنى القرآن كانت ممنوعة مثلا كنت جالسا مع أخ مرة أحاول أن أشرح له معاني بعض الآيات القرآنية عندما لاحظنا الأمير وأمرني بالامتناع عنه:

"لا يحق تفسير القرآن إلا للعلماء فعليك فقط حفظ السور التي علّمكم "مولانا" عن ظهر قلب"
 شكيت له "إذن سنقرأ كلمات لا نفهمها"
"لا يهم! فمن يتلو القرآن له ثواب مهما يكن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"

لم أر كيف يمكن للمرء أن تستفيد من قراءة القرآن بدون فهم معانيها ولكن سرعان ما تعلمت أن قرءاة كلام الله لها قيمة بذاتها ويعتبر شكلا من أشكال العبادة تمنح بركات على القارئ فلذلك حفظ القرآن بغير فهم معناه شائع جدا بين المسلمين خاصةً في البلدان الغير الناطقة بالعربية ولكن حتى في الدول العربية هناك الكثير لا يفهم لغة القرآن جيدا. معظم الذين في مسجد ليدز كانوا باكستانيين وعلى الرغم من أنهم قد حفظوا أجزاء كثيرة من القرآن أكثرهم لم يفهموا كلمة واحدة.

لم يكن حفظ القرآن صعبا جدا كما قد تتصور فله إيقاع شعري وعبارات متكررة مثل بداية الجملة ب "قل!" ونهاية الجملة بصفتين من صفات الله وتكرار بعض القصص والأمثال بحيث توجد في سورة ثم توجد في سورة أخرى بشكل مماثل فهذا يسهل الأمر على من يحاول أن يحفظ القرآن ويقوم الأطفال بحفظ القرآن في سن مبكر جدا وعُقدت احتفالات عند ختمهم القرآن. انا حفظت جزء "تبارك" (الجزء الاخير) سورة يس ، الملك ، الرحمان ، اواخر سورة البقرة والكهف ، آية الكرسي وآيات اخرى ولكن تعلمت معنى كل آية مع حفظها.

لقد كان هناك كتاب الذي شجعونا على فهم معانيه وهو "تعاليم الإسلام" بقلم مولانا الكاندهلوي وأُعطِي الجميع نسخة منه وأُمرنا بدراسته خلال الفترات بين العبادات والمحاضرات. كان هذا الكتاب مصدرا لكثير من المحاضرات ألقاها "مولانا" وكان يتضمن روايات عن الرسول والصحابة وأقوال الصالحين. كان غرضه تعليم العفة والتقوى ومخافة الله وفي البداية وجدت القصص غريبة لا علاقة لها بالمجتمع من حولي فعلى سبيل المثال القصة بعنوان "توبيخ النبي على الكَشْر" - (الكَشْر هو الكشف عن الاسنان عند الابتسامة والضحك):

"دخل رسول الله (صلعم) يوما مصلاه فرأى ناسا يكشرون فقال "أما إنكم لو أكثرتم من ذكر هادم اللذات (يعني الموت) لشغلكم عما أرى فأكثروا ذكر هادم اللذات.....الموت....فإنه لم يأتي على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول أنا بيت الغربة، و أنا بيت الوحدة، و أنا بيت التراب، و أنا بيت الدود فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر مرحبا و أهلا أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم و صرت إليّ فسترى صنيعي بك فيتسع له مد بصره و يفتح له باب إلى الجنّة . و إذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر لا مرحبا و لا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إليّ فإذا وليتك اليوم و صرت إليّ فسترى صنيعي بك فيلتئم عليه حتى يلتقي و تختلف فيه أضلاعه ويقيض له سبعون تنينا (حية) لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه حتى يقضى به إلى الحساب."

أوضح الكاتب في المقدمة أن هدفه في نشره هو:

"بدلا من قراءة حكايات الأطفال المملوؤة بالأساطير والخرافات عند وقت النوم يجب علي أمهات الأطفال المسلمين  قراءة هذه القصص الحقيقية من عصر الرسول والصحابة والصالحين حتى يخلق فيهم المحبة والاحترام للرسول والصحابة ويزيد إيمانهم ويكون بديلا مفيدا لقصص الأطفال الحالية"

كلما قرأت القرآن والأحاديث وقصص الصحابة كلما أصبحت مألوفا ومتأقلما لعقلية القرن السابع وبعد عدة أيام من القعود في المسجد والمحادثات المستمرة والصلاة النافلة شعرت باغتراب عن واقع الحياة من حولي كأن العالم خارج المسجد مليئا بالمخاطر والشر والفتنة ولكن على الرغم من ذلك أمرنا الامير بالخروج لهذا العالم فإنه اختار كل يوم ثلاثة أشخاص لزيارة عنوان من قائمة عناوين جمعوها الاخوة مسبقا. تنتمي هذه العناوين للمسلمين المحليين الذين يُعتبروا بحاجة الى الهداية قلقت عندما اختارني الأمير لزيارة عنوان اول مرة.

اشترط علينا الأمير قواعد محددة فيما يتعلق بسلوكنا خارج المسجد فحظر علينا النظر من حولنا حتى لن نرى حراما فعلينا أن نغض البصر ونتردد أدعية خاصة ، لذلك وجدنا صعوبة في أن نشق طريقنا وأحيانا كنا نصطدم مع الذين يسيرون في الاتجاه المعاكس. وصلنا اخيرا بالعنوان وطرقنا الباب واستقبلنا شاب اسوي حليق اللحية يلبس أحدث الأزياء فرحب بنا بخجل وأدخلنا غرفة الجلوس وقدم لنا الشاي والكعك ولكننا لم نتناول منها كما أمرنا اميرنا لأن هذا الفاسق ربما استخدم المكوّنات المحرَّمة. جلسنا بحذر على حافة أريكته بينما ألقى أميرنا (عُيِّن اميرا لكل مجموعة مهما كانت صغيرة) محادثة عن الموت ويوم القيامة وغيرها من القصص المثيرة من كتاب "تعاليم الاسلام" وألحّنا على مجيئه الى المسجد لسماع محاضرات أميرنا ووافق في النهاية أن يحضر صلاة العصر وأن يستمع الي المحادثة بعده. أنجزنا بمهمتنا فرجعنا - غضاضة البصر - الى المسجد.

لم يلبث إلا يسيرا حتى تملكتني عقلية الهوس وخفت من أنني إذا لم أؤدي كافة التعاليم التي علّمني اياها "مولانا" سأحترق في أسفل دركات جهنم! لم يشغلني فرائض الاسلام فقط ولكن نوافله والعبادات الإضافية وجميع السنات حتى أصغر تفاصيلها. أما الأمور الدنيوية فتضائلت أهميتها عندي

قال مولانا "لا تقل أبدا اننا في عصرنا هذا أكثر تقدما مما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلقد كان جميع أفعاله خير المثال لنا حتى ركوب بغل أفضل من ركوب سيارة أو طائرة لأن ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم"

كان الاحتذاء بأفعال الرسول يشمل كيفية تنظيف الاسنان وقدم مولانا محادثة عن أهمية استخدام السواك

قال "قال  صلى الله عليه وسلم  "لولا أن أشق على أمّتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة"

أخرج مولانا سواكا وشرح لنا كيف نستخدمه بتجريد قشرته من طرف ومضغه حتى كان لينا ثم حك اسنانه به فلما قضى روى لنا قصة:

 "إن الصحابة غزوا غزوة وأرادوا فتح حصناً ما، فاستعصى عليهم ، فتساءلوا عما هجروه من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتذكروا السواك ، فاستاكوا بالجريدة ،  فرآهم أهل الحصن فقالوا: إنهم يحدون أسنانهم ليأكلونا!! فاستسلموا للصحابة"

أصبحت السنات والعبادات والأدعية تسيطر على كل ثانية من يومي عند الصحو من النوم حتى العودة اليه ، عند دخول المرحاض والخروج منهذات الليلة عاتبني مولانا على كيفية نومي فقال:

"إنه يجب عليك أن تضطجع ورأسك باتجاه القبلة وأن تتوسد كفّك اليمنى - كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم." 

بعد ذلك منعت نفسي من التحول من جنب إلى آخر كما كنت أفعله عادة مما اضطرب نومي كثيرا. أصبحت قلقا جدا اذا عجزت عن الاستمرار بكل هذه العبادات والواجبات بعد عودتي الى البيت ولكن لم أستطيع أن أعبّر عن قلقي الى أحد من جماعتي خاصة "مولانا" بل هو كان يفتخر بأن إداء كل واجبات الدين عسيرا للغاية ، وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

"يأتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار"

وأضاف "لم يرد أحدا أن يمسك بفحم حارق إن غريزته أن يسقطه ولكن علي المسلم أن يقاوم غريزته ويتحمل الألم الفظيع للفوز على الجنة وتجنب الجحيم فهو يشتري نعيم الجنة بثمن معاناته في الدنيا وعليه أن يكون مضرب السخرية للكفار وأن يكون غريبا لهم كما قال النبي :

"بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" قيل يا رسول الله من الغرباء؟ قال "الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي" وفي رواية اخرى الغرباء هم "النُّزاع من القبائل" يعني الذين يجدون قومهم على البدعة فينزعون منهم لأجل الإسلام"

لم أقم في مسجد ليدز أكثر من أسبوعين ولكن بدا لي أنه أكثر من ذلك ولما رجعت الى مسجد ديوسبري شعرت بالخوف والارتباك بالنسبة للعودة إلى 'العالم الواقعي' مع مغرياته الشريرة التي قد تضلني عن سبيل الله. بحثت عن شريف  لكنه لم يعد بعد. كان شهر رمضان فحضرت الإفطار في المسجد ، بعد الأكل اسأنفت المحاضرات من جديد ولكني بدلا من حضور محاضرة تسللت بهدوء خارج المسجد للحصول على الهواء الطلق وفوجئت برؤية حوالي عشرين الرجال يدخنون سيجارات في صفّ طويل حول الجدار الخلفي. كانت اول سيجارتهم بعد يوم طويل من الصيام فكانوا يشعرون بالدوار بسبب تأثير النيكوتين المفاجئ وسلّموا عليّ كأنهم سكارى وعلى الرغم من أنني كنت أدخن قبل فترة قصيرة استنكرت فعلهم لأن مولانا علمني أن التدخين مكروه في الاسلام وتعجبت منهم لأنهم أصحاب اللحى الطويلة والعمائم الكبيرة ولكن في نفس الوقت رؤيتهم عزّتني أن هناك مسلمين الذين عرفوا ما هي واجباتهم ولكن ما زال لم يكونوا مثاليين فإنه طمّنني أن الله لم يدخلني ناره ان لم أكون مثاليا.

سعدت لما رأيت شريف أخيرا اليوم التالي وكنت حريصا أن أعرف اذا هو شعر بما شعرت به من القلق والاضطراب ولكنه كان مرتاحا مبتهجا وأشاد بخبراته الرائعة وأنه لا يكاد يصبر حتى الخروج مع الجماعة القادمةعدنا الي لندن وكنت فرحانا جدا حينما دخلت بيتي غير أن الدنيا قد تغيرت وأولوياتي تحولت قليلا ما. أطلقت لحيتي وارتديت الجلباب وطاقية وصمت كل يوم الاثنين واشتريت سواكا والتزمت بكل تعاليم مولانا تماما فكنت مصمما على أن أحافظ على مستوى التقوى والمخافة العالي الذي قد وصلت اليه في مسجد ليدز. اندهشت عائلتي واصدقائي في البداية عندما رأوني متدينا الى هذه الغاية ولكني وجدت أن الرجوع الى 'العالم الواقع' هدّأ قلقي وأعاد لي التوازن والاعتدال ورأيت هاجس "جماعة التبليغ" مع الشكلية والسطحية تشويها للإسلام وذكرت ما قاله القرآن ان الله "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" وأن لا ضرورة لصراع بين احتياجات الدنيا مع احتياجات الآخرة  وبدأت البحث عن الفهم والعلم أعمق مما عرض لي "جماعة التبليغ"